الشرق الأوسط النووي- صراع حضارات أم حق مشروع؟

أحيا الإصرار الغربي المتجدد على تقويض البرنامج النووي الإيراني تساؤلات جوهرية حول أحقية منطقة الشرق الأوسط في امتلاك أسلحة نووية.
لطالما اعتبر الخطاب الشعبي العربي، على مدار عقود مديدة، أن الرفض القاطع والمتكرر لأي طموحات لدولة عربية أو إسلامية في الانضمام إلى النادي النووي، ما هو إلا امتداد لحقبة الحروب الصليبية الغابرة (1096-1291).
وقد استمد هذا الخطاب، الذي يرتكز على "إضفاء طابع ديني على الرفض"، مصداقيته الجماهيرية من "قرائن" ترسخ هذا المنحى نحو "التفسير الديني" للإجابة على هذا السؤال المحوري: لماذا المسلمون وحدهم تُقمع تطلعاتهم في هذا المضمار؟! خاصة وأن "مبدأ المعاملة بالمثل" الراسخ في القانون الدولي والعلاقات بين الدول، لا ينتقص من حقهم القانوني والأخلاقي في امتلاك أسلحة دمار شامل، بما فيها السلاح النووي.
والواقع أن الغرب نفسه قد عزز من "مصداقية" هذا الخطاب الشعبي بشكل ملحوظ، من خلال التطبيق غير المتكافئ للقانون الدولي، وبخاصة فيما يتعلق بإسرائيل، أو لعلمه بأن الشريعة الإسلامية لا تمارس نفوذًا قويًا في مجال التطبيق في دول الشرق الأوسط، وأن الصناعات النووية الوظيفية لا تزال على بعد سنوات بعيدة من التحقق في غالبية الدول العربية.
ومع ذلك، لا يزال الغرب يثير الشكوك والمخاوف، مدعيًا أن إضفاء الشرعية على أسلحة الدمار الشامل بين المثقفين الدينيين ذوي التوجهات الحكومية، يكشف عن مستوى جديد من القلق الغربي حيال سعي المنطقة إلى امتلاك الطاقة النووية تحت ستار المؤسسة الدينية الرسمية.
لا يستطيع "الشعوبيون" الولوج إلى آفاق أخرى تتجاوز البعد الديني إلى البعد السياسي، الذي يتعلق ببنية الدولة والنظم السياسية المتعاقبة على الحكم. فهل يستند الرفض الغربي إلى مخاوف من أن تمتلك أنظمة غير ديمقراطية السلاح النووي، وأن يخضع قرار استخدامه لتقدير شخص واحد، هو "الزعيم"، الذي لا يخضع لأي رقابة برلمانية أو قضائية؟!
لكن التفسير السياسي يفتقر إلى مقومات الإقناع، إذ تمتلك أنظمة غير ديمقراطية، مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا، أسلحة نووية، فيما تظل تجربتا الهند وباكستان موضع تساؤلات مشروعة بشأن إفلاتهما من الرقابة الدولية الصارمة، التي تهدف إلى منع انتشار الأسلحة النووية، وانضمامهما إلى النادي النووي.
وثمة تفسير يرى أن نجاح إسلام آباد "المسلمة" في امتلاك أسلحة نووية، تحقق خلال فترة وجيزة من عدم الاستقرار الجيوسياسي في أعقاب سقوط جدار برلين. ولعل البعد الجغرافي لباكستان ومحدودية مدى القوة الجوية الغربية، هما السببان الوحيدان وراء تجنبها التدخل العسكري.
وتبقى إسرائيل النموذج الأسهل الذي يمكن استحضاره للتدليل على "الانحياز الديني" أو "التمييز الديني" في معاملة الدول التي تتلقى "مساعدات نووية" من الغرب، الذي يمتلك وحده القدرة على "تفعيل" إمكانات أي دولة في العالم ترغب في امتلاك السلاح النووي، أو منعها من ذلك، ولو بالقوة والتدخل العسكري، كما حدث في العراق وإيران.
لا يستطيع أي مراقب أن ينكر أن إسرائيل، بصرف النظر عن نظام الحكم القائم فيها، هي دولة "أقلية دينية/يهود"، يتمتع فيها اليمين المتطرف بنفوذ واسع النطاق، وقد يخضع قرار الحرب والسلام فيها لإرضاء هذا التيار المتشدد والعدواني. وأثناء العدوان على غزة، طُرح خيار "القنبلة النووية" لتحقيق نصر استعصى عليهم تحقيقه، بعد دخول الحرب عامها الثاني دون أن تحقق تل أبيب هدفًا واحدًا من أهدافها المعلنة.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، صرح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بأن أحد الخيارات المطروحة هو إلقاء قنبلة نووية على غزة ردًا على هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
وعلى الرغم من ذلك، شاركت الدول الغربية بحماس منقطع النظير في بناء ترسانتها النووية. فعلى سبيل المثال:
قامت فرنسا ببناء مفاعل ديمونة النووي، وقدمت المملكة المتحدة والنرويج الماء الثقيل للمفاعل، ووفرت الولايات المتحدة، بشكل مباشر وغير مباشر، اليورانيوم المخصب والصمامات النووية وتقنيات التوجيه (تكنولوجيا نظام توجيه صاروخ بيرشينج-2) لصاروخ أريحا-3، وقاذفات مقاتلة طويلة المدى متطورة لإطلاق القنابل النووية (طائرات إف-15 وإف-16).
كما زودت واشنطن إسرائيل بأجهزة كمبيوتر فائقة السرعة تُستخدم لمحاكاة التجارب النووية والتحقق من كفاءة الترسانة، وزودت ألمانيا إسرائيل بغواصات متطورة (دولفين) قادرة على إطلاق صواريخ كروز ذات رؤوس نووية، وزودت بلجيكا الدولة اليهودية بخامات اليورانيوم من مستعمرتها السابقة زائير.
وفي عام 1979، قامت أجهزة المخابرات الفرنسية، بمساعدة الموساد، بتخريب قلب المفاعل النووي الذي باعته فرنسا للعراق قبل شحنه، وأطاح حلف شمال الأطلسي بالقذافي، كما خضعت ليبيا لعقوبات اقتصادية من الغرب.
لا يعجز خبراء السياسة الغربية عن إثارة "الضجيج" حول أي تفسيرات منطقية تبرئ ساحتهم من اللجوء إلى "التمييز الديني" كلما تعلق الأمر بالرفض الغربي لامتلاك الشرق المسلم، على وجه الخصوص، للسلاح النووي، إذ يعتقد المبررون لهذا الرفض أن "الشرق الأوسط النووي ليس شرقًا أوسط آمنًا".
ويجادل "دانيال سيروير"، الأستاذ بمعهد السياسة الخارجية بكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، بأن أي خطوة حاسمة من جانب إيران، على سبيل المثال، نحو امتلاك الأسلحة النووية، قد تفتح الباب على مصراعيه.
ويشير إلى أنه إذا حدث ذلك، فقد نشهد، في غضون أشهر، أربع قوى نووية جديدة في المنطقة، بالإضافة إلى القدرات النووية الحالية في إسرائيل.
ويحذر من أن دقائق معدودة من زمن إطلاق الصواريخ تفصل عواصم القوى النووية المحتملة في الشرق الأوسط، حيث يسود العداء المتبادل وانعدام الفهم في جميع أرجاء المنطقة.
لا يصدق أحد هنا في الشرق ما يقال هناك في الغرب، خاصة أن الخلط بين الديني والسياسي، مع تغليب الأول على الثاني، له ما يبرره، إذ إن الشعارات التي ترددت بعد الحرب العالمية الثانية، ومن بينها أن هوية أوروبا "مسيحية-يهودية"، لا تزال حاضرة في الخطاب السياسي الرسمي الغربي، كلما تصاعد في العواصم الغربية الجدل حول المخاوف من التمدد الإسلامي الرمزي.
فعلى سبيل المثال، كتب حزب الشعوب الأوروبي، وهو أكبر كتلة سياسية في أوروبا، في بيان له أن القارة الأوروبية تشترك في "ثقافة وتراث يهودي-مسيحي مشترك"، وأنه "علينا حماية أسلوب حياتنا الأوروبي من خلال الحفاظ على قيمنا المسيحية".
وفي مقال رأي، أكد رئيس الوزراء الفلمنكي جان جامبون على هذا "التراث اليهودي المسيحي"، واضعًا إياه جنبًا إلى جنب مع الديمقراطية اليونانية وسيادة القانون الرومانية، باعتبارها المبادئ الأساسية الثلاثة للهوية الأوروبية.
وأثناء الحرب الإسرائيلية الأميركية على إيران، ترددت في بعض المواقع الإسلامية آراء تستند إلى ما استقر في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي بشأن الرفض الغربي لأي تطلعات عربية لامتلاك مظلة نووية، مشيرة إلى أن إسرائيل ليست امتدادًا لهذه الهوية الغربية المزعومة فحسب، وإنما تخدم أيضًا طموحات الحركات الدينية في الغرب، التي تخشى إحياء الحضارة الإسلامية، وصولًا إلى الحركات المسيحية الصهيونية التي تؤمن بأن الهيمنة اليهودية على الشرق الأوسط ضرورية للمجيء الثاني للمسيح.
هذه الجماعات، ذات التأثير العميق على صنع القرار الأميركي، ترى في كل دولة عربية أو إسلامية، بصرف النظر عن هوية قادتها، تهديدًا يجب احتواؤه.
وفي نهاية المطاف، فإن التطورات المحيطة بالبرنامج النووي الإيراني أكدت حقيقة جلية، وهي أن الصراع على الطاقة النووية ما هو إلا جزء من صراع حضاري أوسع نطاقًا، وأن الغرب قد عقد العزم على حرمان العالم الإسلامي من الوصول إلى الطاقة النووية، حتى لو استلزم ذلك اللجوء إلى الخيار العسكري.